حرب التضليل: باحث أم شرطي فلسفة!!؟
ردّ على \"مقال\" المسمى فؤاد بن أحمد أستاذ الفلسفة بثانوية بمدينة أكادير، والذي نشره بموقع \"الإمبراطور\" في ركن \"فضح الرموز\". وأخبر متتبعي وقرّاء الموقع
المحترم أنه سبق لهذا المفتري أن نشر نفس \"الافتراء\" بجريدة الأحداث \"المغربية\"
تحت عنوان:\"جامعي مغربي يسطو على فكر جامعي تونسي\"، ثم بمجلة \"النور\"،
العدد173 مايو 2006. تحت عنوان:\"كيف تصرّف جامعي مغربي بإنتاج جامعي تونسي/من تضليل القارئ إلى الاقتباس دون ذكر الإحالة\". ولقد قمت آنذاك بالرد عليه في كلا
المنشورين.
- هل هو \"بيان\" صادر عن \"باحث\" في الفلسفة أم بيان صادر عن \"شرطي للفلسفة\"؟
- هل ضغينته موجّهة ضد مقال \"نحو استشكال فلسفي لمفهوم الجامعة..\" أم أنّها
تستهدف مجلة \"مدارات فلسفية\" وهيئتها ومن خلالها الفكر الحرّ ككلّ؟
- هل فؤاد بن أحمد هو صاحب \"المقول\"، أم أنه \"دمية\" تحرّكه إرادات ارتكاسية
تداعب \"ضفاف الشر\"؟
\"إن الفلسفة لم تنج بعد من روح الانتقام ومن النزعات المحافظة التي تؤرق العصر.
هنا وهناك، يتم توظيف الوسائط الإعلامية لدغدغة الرغبات الآمنة تحت ذريعة العودة
إلى المصادر وإلى الجدّية الفلسفية: أحكام متسرّعة نسجت عبر خلط وتعميم، وتجاهل وقح
للنصوص التي يتم التعامل معها، غطرسة مصحّحي الأخطاء، أو سخرية متكبّرة لمعلّمين
صغار يتهافتون لدفن مسنّيهم\". (فرانسوا ليوتار)
حتى نضع قراء \"موقع الإمبراطور\" المحترم بالأنترنيت، أمام الصورة الكاملة لهذا
الرد، سنقوم بتأطيره في سياقه. فلقد سبق لهذا \"الطالب الباحث\" أن نشر في تاريخ 26
مارس 2006 بجريدة \"الأحداث المغربية\" في ركن \"ملتقى الفكر\" نفس \"المقول\".
وقمت آنذاك بالرد عليه في نفس الجريدة بتاريخ 2 أبريل 2006. ومن المفروض أنّ نفس
\"المقال\"، لا ينشر مرّتين ولو في دوريتين مختلفتين. وأنّ الباحث الذي يقدّر
الأمانة العلمية، ويتحلّى بأخلاق الصدق والإخلاص، حتى حينما يريد أن يعيد نشر
مكتوبه مرة أخرى، فإنّه يعلن عن قصده ويبوح بنيته في ذلك احتراما للمجلّة أو
الجريدة التي ينشر فيها، واحتراما لقرائها. ولكن الذي حدث مع هذا المدّعي المغرور،
هو مخادعة لموقع الإمبراطور، وتحايل واستهانة بقرّائه الكرام. إذ لم يخبر الموقع
بهذه الحقيقة، أي بكونه لجأ إليه لكي يعيد نشر ما رفضت كلّ المجلاّت المغربية
الرصينة إعادة نشره- باعتباره تجسيدا لذاتية نرجسية مريضة، ولأخلاق سوقية- وكان
آخرها مجلّة \"علامات\" كما أخبرني بذلك مديرها المسؤول عنها. هذا إذا افترضنا بأنّ
ما كتبه هذا المحتال يمكن أن يعدّ مقالا صالحا للنشر، بما يثيره من مسائل وإشكاليات
جديرة ومفيدة للقارئ ولكل متتبّع، غير أنّ هذا ما لم يحدث. \"فالمقول\" هو في ظاهره
عبارة عن عملية \"تشهير أخلاقي\" كلّها شتم وسباب واتهام وإدانة، وفي عمقه يقطر
سمّا وتحرّكه أشدّ الأهواء حقدا وضغينة. ويزداد \"المكتوب\" بؤسا وتعاسة، إذا
استحضر القارئ كونه يدّعي الانتساب إلى الحقل الفلسفي، وهو حقل بدأ- في مغرب اليوم-
يؤسّس شيئا فشيئا مصداقيته ومشروعيته، و بدأ يعرف نوعا من الانتعاشة بعد أن ظلّ
لسنوات حقلا محظورا محاصرا. وهذا ما يجعلنا لا نتردّد بالقول: إذا كانت الفلسفة
بالأمس ووجهت من قبل عدو خارجي تجسّده القوى الإرتكاسية الظلامية الممالئة لسدنة
سنوات الجمر، فإن الفلسفة- هنا والآن وانطلاقا من هذا \"المقول\"- تجد نفسها في
مواجهة قوى ارتكاسية جديدة تستعير قناع \"التنوير\" و\"العقلانية\" و\"ادعاء العودة
إلى الأصول لتقويم الانحراف\"، لنسف الفلسفة من الداخل بعد أن باءت بالفشل محاولة
القضاء عليها من الخارج.
يتعلّق الأمر بمحاولة احتواء الحسّ النقدي عبر تمييعه بزرع روح الانتقام والضغينة
فيه، وتحويل الفلسفة من كونها تربية على الحوار العقلي، والاستقلال الفكري،
والاختلاف في الرأي، إلى فكر يدين الاختلاف، ويحتمي بالأصول، ويقوم على الولاء،
ويكرّس تبعية المريد للشيخ. وكمثال على هذا الولاء والتبعية العمياء، يكفي أن نذكّر
القارئ الكريم، بأنّ هذا \"المقول\" الذي تقدّم به هذا \"المدرّس المبتدئ ، هو أول
\"مقول\" \"يدشّن\" به \"مشواره\" \"العلمي\"، فأبى إلاّ أن يجعله مناسبة لتحريك ما
يتأجج في دواخله من مشاعر الكراهية والبغضاء ضدّ أعداء متوهّمين. لهذا فهو \"مقول\"
يفتقر إلى الحدّ الأدنى من الشروط العلمية والأخلاقية، إذ كلّه تشهير وإدانة
واتهام، ليس اتجاهي أنا فحسب كأستاذ وباحث، وإنما أيضا لمجلّة \"مدارات فلسفية\"-
وهي تكاد تكون المجلة الوحيدة المتخصصة في البحث الفلسفي- التي يديرها ثلّة من أبرز
رموز الفلسفة في المغرب، ومن بينهم الأستاذ المشرف والموجّه لبحث فؤاد بن أحمد. لقد
تطاول هذا المغرور على هيأة تحرير المجلّة الذي يعدّ أستاذه المشرف أحد أعضائها.
لكن ألا يمكن أن نفترض بأنّ إساءة الطالب \"الباحث\" للمجلّة ولأعضائها، هو تعبير
عن وصولية تتقنّع \"بالمحاباة\" و\"الولاء\" للظفر بالشهادة الجامعية حتى ولو اقتضى
ذلك- من صاحبه- الذيلية والتضحية بكرامة وشهامة أجداده؟ لكن من المستفيد من كلّ هذا؟
أليست هناك- من الناحية الموضوعية- نية مبيتة للنيل من سمعة المجلّة وأعضائها، أو
للتشويش على إشعاعها، أو للاستحواذ عليها، أو كمحاولة يائسة للخروج بالصراعات
الداخلية إلى العموم على نحو ما تشهد على ذلك العديد من الوقائع التي يجهلها
مكاتبنا)بفتح التاء أو \"الكاري حنكو\") المأمور.
لكلّ الاعتبارات الآنفة الذكر، لا يمكن اعتبار ما كتبه المسمى فؤاد بن أحمد سجالا
فكريا ولا حوارا فلسفيا، وإنما هو عبارة عن \"بيان انتقام وتصفية حساب\"، يستهدف
أساسا ليس مقالي \"نحو استشكال فلسفي لمفهوم الجامعة ووظيفة الفيلسوف\" الذي نشر
بمجلة \"مدارات فلسفية\" العدد 13، وإنما اتخذ من ذلك المقال مطية وذريعة لتشويه
صورة المجلّة وأعضائها وصورتي كباحث في مجال الفكر الفلسفي، وللتهجّم على شخصي
بأسلوب كلّه بغضاء واتهامات وشتائم، وهي المسألة التي أقرّ بها على طريقة التداعي
الحرّ، من خلال قيامه بعملية نفي استباقي، هي إذا ما نظر إليها من زاوية التحليل
النفسي، أشبه باعتراف تصعيدي une reconnaissance sublimée ومحاولة الالتفاف على
الإحساس بالإثم والشعور بالذنب. وإلاّ يتعذر علينا فهم سرّ إلحاح- هذا الارتكاسي-
في خاتمة \"بيانه\" ذاك على طرح الاستنتاج التالي: \"والسؤال قبل أن نودّع القارئ
هو: ما الغرض مما كتبناه وأثبتناه؟ أقول إنّ الغرض من هذا القول لم يكن لا التشفي
من الرجل، ولا حقدا عليه، ولا ضغينة كما قد يتوهّم\". ولا شك أنّ القارئ الكريم
يستطيع أن يخمّن بسهولة بأنّ هذا \"الإنكار \" يعرف- في إطار التحليل النفسي-
بالإنكار التأكيدي.
لهذا وتأسيسا على هذا المستوى، أصادر بأنّ \"بيان\" صاحبنا إنما هو إملاء خبيث
ويائس، لأنّ ثمّة هوة سحيقة بين \"لعبته\" ومقاصده ورهانه، وهذا \"الريفي الأخير\"
الذي تنكّر لذاكرته، وإثنيته الشغوفة بالحرية، والمعتزّة بكرامة ومجد أبنائها
الأحرار المقاومين ذوي الرؤوس الشامخة، ليضع \"شرفه\"، و\"قلمه\"، وعدوانيته، في
خدمة من يدّعون الانتساب إلى الحكمة، بينما هم في حقيقة أمرهم من حفاري قبورها؛ وهم أيضا من يدّعون الانتساب إلى حركة التحرير الوطني بينما هم من تآمروا على ثورة عبد الكريم الخطابي التحريرية.
إنّني أرتاب بكلّ يقين أن تكون الإرادة إرادته، ولكنّها إرادة الذي يتجرّع باسمه
نخب الضغينة. والذي يرسّخ هذا الارتياب أنّ ما ضمّنه \"بيانه\" من إساءة للمجلّة
وأعضائها، هو ذاته الأسطوانة المبتذلة التي ترقص على نغماتها بعض خفافيش الظلام
والذئاب المفترسة. ولسنا بحاجة مرّة أخرى لنشعل ضوء شمعة في ردهات وظلمات هذا الفكر
الارتكاسي، وهو الذي ركب طيشه في الخروج على أدبيات الحوار وأخلاقية السجال، ليعزف
\"نشيدا\" هجينا يقدّم نفسه من خلاله قربانا لمستنقع الوحل الذي يؤويه ولإمارة
المكر والأضاليل والخيانة.
وانطلاقا من هذا، وبناء على فحص متأنّي وتشخيص للآليات التي تحكّمت في إنتاج
\"البيان\" الآنف الذكر، يبدو أنّ ما كتبه المسمّى فؤاد بن أحمد هو أشبه بتقرير
صادر عن من نصّب نفسه \"شرطيا للفلسفة\"، وليس مدرّسا لها، هذا أوّلا. وثانيا، فإنّ
هذا \"المقول\" يصلح أن يكون عيّنة لتشخيص أعراض مرض \"الحقد والضغينة وروح
الانتقام\"، ولا يمكن أن يعدّ بأيّ حال من الأحوال حوارا أو سجالا فكريا، ولا حتى
تحليلا أو نقدا فلسفيا- كما يتوهّم صاحبه. لهذا فمعذرة للقارئ الكريم إن التبست
عليه صورتي المعهودة التي ألفها في كتاباتي، إذ أجد نفسي أمام هذا المكاتب(بفتح
التاء) الحقود، مضطرا أن أضع النقط على الحروف، وأن أزيل الأقنعة عن أعراض نرجسيته
وحالته المرضية، استجابة لوعد قطعته على نفسي تضمّنه ختام ردّي الأوّل في جريدة
الأحداث، أورده بالحرف الواحد: \ " هذه نهاية البداية، ولنا عودة لاستئناف ما بدأناه،
ولفؤاد بن أحمد أن يقر\"ر ما إذا كان أراده سجالا فكريا وحوارا فلسفيا، أم تشخيصا
لأعراض جديدة لمرض الضغينة\" . ومما يزيد إصرارنا على إدراج \"مكتوب\" فؤاد بن أحمد
ضمن أرشيف \"أمراض الضغينة\"، أنّه آثر\"الهروب إلى الأمام\"، وإثارة الشبهات حول
مجلّة \"مدارات فلسفية\" التي يعتبرها \"أصدقاء الفلسفة\" القلب النابض لمغرب
المستقبل، متحصّنا في فعله الشنيع ذاك بمولاه \"سيد العارفين\"، وصاحب \"الحلّ
والعقد\".
فعلى غرار \"سلطة الداخلية\"، يشغّل تقرير \"شرطة الفلسفة\" الآليات التالية:
1- آلية ضبط الهوية على غرار \"الحالة المدنية\": فالمتهم \" أستاذ جامعي مغربي
بكلية آداب مكناس، عضو الجمعية الفلسفية المغربية وعضو حديث بهيئة التحرير بمجلة
مدارات فلسفية..\" . كما أن \"هوية\" المجنى عليه مضبوطة من حيث \"الجنسية،
والمؤلفات، واللغة والأسلوب غير القابلين للنسخ..\".
2- آلية الحفاظ على \"مقدّسات\" \"مملكة الفلسفة\": \"فالفلسفة مذاهب وتيارات
وأساليب معيّنة ولغة مخصوصة، والمؤلفات والكتابات تحمل بصمات أصحابها، والأفكار
الفلسفية هي \"ملكيات خاصة\"، ويجب أن تبقى طاهرة نقية لا تشوبها شائبة بحيث يمنع
إعادة تملّكها وتوزيعها أو تعميمها أو تحويرها أو ترجمتها، دون أن تحمل توقيعات
أصحابها\" . وهو الذي يعني أنّه يشترط في تداول الأفكار، ونقلها، ونسخها، ألا يكون
من الناحية القانونية مشروعا إلاّ بترخيص يحمل طابع \"شرطة الفكر\"، وتأشيرة
\"مؤسسة الاستخبارات\".
3- آلية الحفاظ على \"هيبة\" المؤسسة وسلطتها. فلا \"يجوز لأي كان أن يضع موضع
تساؤل، أو نقد، أو شبهة، مؤسسة من المؤسسات، إلاّ إذا قدّم الولاء لها، واعترف
بفضلها عليه، \ ".
تلكم إذن بعض أهم الآليات التي استعملها فؤاد بن أحمد في \ "بيان الانتقام وتصفية
الحساب \ "، الذي لا يتردد في نعته \ "بالقراءة الفلسفية \ "!. فهل نحن حقا أمام
\ "قراءة فلسفية متيقظة\" أكثر من اللازم، كما يدّعي، أم أننا أمام عمل استخباراتي
وأمام محاكمة بوليسية؟
يتساءل فؤاد بن أحمد: \ "ماذا لو قرأ الأستاذ فتحي المسكيني مقالا كهذا؟ ماذا ستكون ردّة فعله؟ ويجيب عن هذا السؤال قائلا: يبدو لي شخصيا أنّ ردّة الفعل السليمة التي ستكون متوقعة، هي الاتجاه رأسا إلى المحكمة، لتقديم اتهام في حق محمد أندلسي بالسرقة والسطو على مِؤلّفه \ "الهوية والزمان \ " ، وهو الاتهام الذي سنكون فيه شاهدين على ثبوت هذه التهمة.
من الأكيد – وحسب تخميني- أن الباحث المسكيني، سيختار موقفا آخر غير موقف هذا الحقود، لأنه بحسّه الفلسفي المرهف، يدرك بأنّ فضاء الاتهام والمحاكمة والقضاء ليس هو بالفضاء اللائق ولا الملائم بقضايا الفكر والاجتهاد، هذا أوّلا. وثانيا، لأنّ
العلاقة التي يقيمها الباحث التونسي مع أفكاره وتصوراته واجتهاداته ليست من نمط
العلاقة التقديسية الصّنمية، أو علاقة الوصاية والأبوية، وليست على أية حال علاقة
تقوم على الملكية الخاصة، على غرار العلاقة التي يقيمها صاحبنا مع الأفكار
والمعارف.
ما يلفت الانتباه إذن في \"بيان الإدانة والاتهام والعمل الاستخباراتي\"، هو أنّ
صاحبه يعلن عن نفسه \"كشاهد، ويضع شهادته رهن إشارة المحكمة بدون قيد أو شرط\" ،
وليس \"البيان\" سوى محاولة لجمع \"القرائن\" للمطالبة برأس المتهم وإدانته. وأترك
للقارئ الكريم واسع النظر ليستنتج، فيما إذا كان هذا الكلام صادرا عن مدرّس للفلسفة
أم عن شرطي للفكر.
اقتفاء إذن بأساليب \"التحقيق والاستنطاق\" يتم تلفيق تهمة صريحة ومباشرة: \" جامعي
مغربي يسطو على فكر جامعي تونسي\" . أو\"كيف تصرّف جامعي مغربي بإنتاج جامعي
تونسي\" . واضح أنّ صيغة العنوان بكلّ ما تحمله من تهويل وتعميم وتضليل- تذكرنا
بصيغ الاتهامات التي كانت تنتزع عنوة وبواسطة العنف والتلفيق من معتقلي الرأي في
بلادنا خلال سنوات الرصاص- تروم تضخيم \"القضية\" لإحداث مفعول الصدمة على القارئ
من جهة، ولتسويغ ما سيتضمّنه \"تقرير محضر الشرطة\" من انحطاط فكري وسفالة أخلاقية،
لا يمكن أن يصدرا إلاّ عن كائن ارتكاسي يعاني من \"كهولة فكرية مبكّرة\"، فلم تعد
تسعفه إلاّ لغة الاتهام والشتم من قبيل: \"السرقة، اللصوصية، السطو، السّلخ،
التضليل، التزييف...\".
قلت بأنّ صيغة \"التقرير الاستخباراتي\" تهويلية وتضليلية، لأنها تتحدّث تارة
عن\"سطو تم على فكر\"، وتارة أخرى عن\"سطو على كتاب\" ، بينما الفقرات التي استند
إليها هذا \"المخبر\" لإثبات ذلك، لا تتعدّى في مجملها بعض الفقرات، علما أن مقالي
بأكمله في صيغته الأصلية لا يتجاوز ست صفحات. فهل هذه الفقرات المعدودة تشكّل
بالفعل كلّ فكر الباحث المسكيني، أم أنّها لا تمثّل سوى عيّنة صغيرة غير تمثيلية
لذلك الفكر؟ ثم هل مجرّد الاقتباس والاستنساخ حتى بدون الإحالة- وهو ما لم يحدث في
مقالي الأصلي- كاف لوحده لإثبات عملية السطو على فكر، وعلى كتاب؟
كان جدير بصاحب \"بيان الإنتقام والاتهام والتجسّس\"، إن كان فعلا- كما يقول عن
نفسه بأنه \"القارئ الذي يدرك ما لا يدركه القارئ العادي\" - أن ينتبه بالأحرى إلى
إشكالية الباحث المسكيني، وإلى النموذج الفلسفي الذي يستلهمه في أبحاثه وتفكيره،
وأن يقارنها بالإشكالية التي يتمحور حولها اهتمامي والنموذج الفكري الذي أستلهمه
بدوري. أوّل ما سيثير انتباهه هو الاختلاف الجذري الموجود بيننا كباحثين على مستوى
الإشكالية وعلى مستوى النموذج المستلهم. سيلاحظ أنّ إشكالية زميلنا الباحث هي
إشكالية \"تنويرية\" تندرج ضمن \"فلسفة الأنوار\" التي تعتبر العقلانية عمودها
الفقري. كما أنّه يستلهم في تفكيره نموذج \"نقد اللاعقلانية\" التي يحصرها في
وجهين: الوجه اللاهوتي، ووجه العدمية التي يمثّلها كلّ من نيتشه، وفوكو، ودولوز،
ودريدا.. إلخ. بينما الإشكالية التي أشتغل عليها هي إشكالية تتأطّر ضمن ما أصبح يعرف
ب\"ما بعد الحداثة في الفلسفة\" ، وأنّ النموذج الذي أحاول استلهامه هو النقد
الجذري للعقل واللاعقل، وهو نقد يزاوج بين الجنيالوجيا والتفكيك، أي إزالة الأقنعة
عن الأصول وفضح أوهامها، وتفكيك الثنائيات الميتافيزيقية: مثل ثنائية الصدق والكذب،
والخير والشر، والأصل والنسخة، والأيقونة والسيمولاكر، والظاهر والباطن، والعقل
والجسد...إلخ .
هكذا فلولا ضغينة صاحبنا التي أعمت بصيرته، ولولا وثوقيته التي أرهقت طاقته
الذهنية في الجوانب الشكلية من مقال الباحث التونسي ومقالي، وانتبه إلى طبيعة
الإشكالية، لما انتهى إلى ذلك الحكم المتسرّع الجائر، الذي أقلّ ما يمكن أن يقال
عنه أنه حكم لا فلسفي. لأنّ أهم شيء تعلّمناه في مدرسة الفلسفة هو الحيطة والحذر
والتروّي في إصدار الأحكام.
فهل يا ترى مقال \"نحو استشكال فلسفي لمفهوم الجامعة\" نسخ لبعض فقرات خاتمة كتاب
\"الهوية والزمان\"؟ أم أنّه توظيف مبدع لتلك الفقرات، وزحزحة لإشكاليتها، وتحوير
لمفاهيمها ولغتها بالشكل الذي يخدم اختلاف إشكاليتي وتصوّري؟
إنّ الجواب بكلّ تأكيد هو لا بمعنيين:
1- لأنّ الفقرات التي تمّ اقتباسها من خاتمة الكتاب الآنف الذكر، تمّت الإحالة
إليها في مقالي هذا أكثر من مرّة، ولست مسؤولا لا أنا ولا المجلة عن الأخطاء
المطبعية اللاإرادية المتمثّلة في سقوط بعض الإحالات، فهذه مسألة معروفة عند
الجميع. وأدعو القارئ الكريم للرجوع بنفسه إلى مقالي ذلك للتأكد فيما إذا كنت قد
أحلت فيه إلى كتاب زميلي الباحث التونسي أم لا، كما يدّعي هذا المفتري المنعدم
الضمير. هناك إذن عملية استثمار لجزء من خاتمة الكتاب – وقد تمّت الإحالة إليها- هي
أشبه بعملية الترجمة، حتى وإن كان مجال الترجمة هنا ليس من لغة إلى لغة أخرى، وإنما
ترجمة داخل نفس اللغة. وعلى أن تفهم الترجمة هنا أيضا ليس بمعناها الميتافيزيقي،
كعملية استنساخ تعيد \"إنتاج النص الأصلي\" شكلا ومضمونا، وإنما كعملية استلهام لا
تخلو من \"تحوير\" و\"مراوغة\" و\"خيانة\"- بالمعنى الإيجابي للخيانة، وهذه أعدّها
غرابة لغوية ومفهومية لا تستسيغها عقلية فؤاد بن أحمد المحافظة، الذي نصّب نفسه
–بشكل مخاتل- \"حريصا\" على \"نقاء الهويات\" و\"طهارة الأصول\" .
فمثلا حينما أستشهد في مقالي ذاك بقولة كانط حول مفهوم ودلالة التنوير بالإحالة
إلى النص الأصلي الوارد ترجمته بكتاب \"الحداثة\" للأستاذين محمد سبيلا وعبد السلام
بنعبد العالي، فإنّ صاحبنا يعتبر هذا – في ردّه- تضليلا، لأنني لا أحيل إلى القولة
كما صاغها الباحث المسكيني في كتابه الآنف الذكر، وهي قولة وردت في سياق الكتاب
مبتورة لا تفيد كل المعنى الذي أراده لها كانط. فهل هذه الإحالة \"تضليلية\" أم أنّ
صاحبنا، هو الذي يريد تضليل نفسه، بتوهمه بأنّ كتاب \"الهوية والزمان\" هو الذي
مكّن الفلسفة عندنا- في المغرب- من التعرّف على تصوّر كانط للتنوير؟
من الواضح أن صاحبنا بحكم هشاشة تكوينه الفلسفي، وبحكم كونه لازال متعثرا في خطوته
الأولى في مجال البحث العلمي- إذ تجربته في تعليم الفلسفة بالثانوي لم تتجاوز بعد
خمس سنوات- فإنّه يظل منبهرا وتابعا للنماذج التي يقرأ لها، عاجزا عن تحقيق استقلال
فكري وعن استشكال ما يقرأه، ولهذا فهو يقوم بإسقاط قصوره على الآخرين ويتوهم أنّهم
مثله مريدون، تابعون، ناقلون، ومردّدون لأفكار \"شيوخهم\".
2- ليس هناك نسخ أيضا، إذا ما انتبهنا إلى الإشكالية التي يبلورها الباحث التونسي
في خاتمة كتابه، وقارناها مع مضمون الإشكالية التي تتمحور حولها مقالتي. فكلّ قارئ
\"منتبه\" بالفعل، إلاّ وسيقف على الاختلاف الجذري- وأشدّد على هذه العبارة- بين
الإشكاليتين: إشكالية زميلي المسكيني هي إشكالية إخراج الثقافة العربية بصفة عامة
والجامعة العربية بصفة خاصة من \"قبلة\" اللاهوت إلى \"قبلة\" الحداثة، انطلاقا من
قناعته بأنّ ما يهدّد الجامعة اليوم هو الأصولية الدينية. وطبعا فإنّ تغيير هذه
القبلة يفترض جعل التفكير في الجامعة يتوجّه نحو \"قبلة العصر\" التي هي -عند
الأستاذ المسكيني- مثال \"الحداثة السياسية\" و\"فلسفة الأنوار\" بصفة خاصة. بينما
أنّ مضمون إشكالية مقالي يروم تحميل قسط من المسؤولية- فيما آلت إليه الأوضاع في
الجامعة المغربية- إلى التوجّه الليبرالي المتوحّش الذي أصبح مهيمنا مع اكتساح
العولمة، وهو التوجّه الذي كرّسه الإصلاح الجامعي المستحدث عندنا في المغرب منذ سنة
2003. كما يحمّل جزءا من المسؤولية إلى التزمت الفكري والانغلاق الثقافي وانسداد
آفاق البحث العلمي منذ الحظر الذي طال تدريس الفلسفة وعلم الاجتماع بالجامعة،
كنتيجة لتحالف القوى النظامية المخزنية مع القوى الظلامية.
وهناك اختلاف آخر أساسي بيني وبين المسكيني وهو إنّ ما أعتبره \ "نموذجا\" يمكن
استلهامه اليوم في الثقافة العربية الإسلامية، ليس هو\"فلسفة الأنوار\" و\"مثال\"
الحداثة- كما يذهب إلى ذلك الباحث المسكيني- لأنّ العصر الذي نعيش فيه اليوم، يثير
بأحداثه الفظيعة والمرعبة، تساؤلات جذرية تتعلّق بمدى مصداقية قيم \ "التنوير \ "،
و \ "الحداثة\" وفي مقدمتها: قيم \"العقلانية \ " و \ "الديمقراطية \ " و \ "حقوق الإنسان \ "-
وإنما فلسفة الاختلاف، أي فلسفة الجنيالوجيا والتفكيكية. بينما يحذر الأستاذ
المسكيني من مخاطر النيتشوية والتفكيكية ويدرجهما معا في إطار العدمية الغربية.
فهل يجب أن نذكّر صاحبنا الذي ضحّى بمنطق التحليل الفلسفي لصالح \ "منطق \ " الانتقام وتصفية الحساب ، بأنّ الذي \ "يسطو \ " على \ "فكر الآخرين \ "، لا يمكن أن يكون صنيعه وليد اللحظة، وإنّما لابدّ أن ينعكس آثار ذلك على مسيرته الفكرية، في أبحاثه ومقالاته ومؤلفاته. لكن يبدو أنّ هشاشة التكوين العلمي والضغينة وروح الانتقام، قد أعمت بصيرة فؤاد بن أحمد، فجعلت الشجرة تحجب عنه رؤية الغابة. إنّ صاحبنا اتخذ موقف الصمت المطبق اتجاه أبحاثي ومقالاتي الأخرى التي يفترض أنه مطّلع عليها. فلماذا إذن هذا الصمت؟ لماذا آثر أسلوب التجاهل ولغة الاتهام والتشهير على أسلوب الحوار والتحليل والنقد الفلسفي؟ أم إنّ \ "فاقد الشيء لا يعطيه\"، وإنّ اللجوء إلى لغة الشتم والسباب والتشهير ما هي إلاّ محاولة يائسة للتغطية على البلاهة الفكرية والسفالة الأخلاقية.
لا شكّ أنّ المتتبّع لتحليلنا \ "لبيان\" هذا المدّعي-المفتري، سيدرك أنّ الهاجس
الفعلي الذي حرّكه ليس كما يريد أن يوهم نفسه، هو محاربة \"السرقة في الفلسفة\"،
وليس هو إدانة \"السطو على فكر الغير\"، وليس \"إصلاح السلوك الثقافي في المجتمع
المغربي\" (بكل تواضع عظامي)، وإنّما هو في تقديرنا وتحليلنا هاجس ارتكاسي-
انتقامي، سأطلق عليه \" الضغينة الفلسفية\"Le ressentiment philosophique ، وهاجس
انتهازي- وصولي يتمثّل في السعي لنيل رضى \"مولاه\" للحصول على إشهاده وشهادته.
نستنتج مما سبق أن \"بيان\" صاحبنا منذ بدايته إلى آخره يعانق \"روح البهتان\" الذي
جنّد نفسه، تزلفا، لاستئصال شأفته. ولأنّ هذا \"البيان\" نسيج إرادات ارتكاسية
خبيثة تداعب ضفاف الشر، فإنّ أبرز ما يعكسه هو الاضطراب الواضح في أسلوب التفكير،
وتداعي الأحكام والإسقاطات العدوانية، وكلّ هذا أبعده عن إدراك جوهر الاختلاف في
الإشكالية الفلسفية بيني وبين زميلي الباحث المسكيني، وعن جوهر الخلاف الإشكالي
الذي تدور رحاه في الفكر الفلسفي المعاصر، لينجرف وراء قضايا سطحية متجاوزة،
ويتشبّث بمفاهيم مشبعة باللاهوت والميتافيزيقا تمّ تفكيكها وأصبحت مهجورة اليوم من
قبل التفكير الفلسفي المعاصر، نظير مفاهيم: الأصل، والماهية، والحقيقة، والهوية،
والنقاء، والطهارة، والنسخ، والخيانة، والمصدر الفكري، والأبوية الفكرية.
لقد جسّد صاحبنا بهذا \"الفهم الارتكاسي\" ، وبشكل ملموس، عجزه عن استيعاب
الإشكالية التي أبلورها عبر مختلف مساهماتي، وكذا إشكالية زميلي الباحث التونسي.
كما ظلّ بمنآى عن التطورات الحاصلة في مجال الفكر الفلسفي الحديث والمعاصر، وخاصة
الخلخلة الكبيرة التي تعرّضت لها قيم التقليد والحداثة ومعانيهما الكبرى
وثنائياتهما الميتافيزيقية. لذلك ظلّ \"بيانه\" غارقا في التخبّط، ولا يسترشد بأي
تحليل فلسفي يجعله مقنعا ومفحما، وكل ما سعى إليه، هو البحث عن مذنب يحمّله وزر
عدوانيته وعدوانية من يحرّكه.
إنّ القارئ المتتبّع لحركة الإبداع الفكري في المجال الفلسفي، وخاصة في عصر سيادة
العولمة والأنترنيت والنص الرقمي والتناص، يدرك هول التفكيك الذي طال أهمّ المقولات
والمفاهيم التي كانت إلى حدود البارحة تشكّل معاقلا \"آمنة\" للفكر المحافظ،
وأسيجة \"محصّنة\" للثقافة اللاهوتية والميتافيزيقية المنغمسة في \"التراث\".
ونظرا لكون طبيعة المقام ومقتضيات السياق لا تسمح بخوض غمار تحليل هذه المسألة،
وإماطة الأقنعة عن الأوهام التي تنطوي عليها، فسأكتفي بالاستشهاد بنص واحد، له
دلالة خاصة في ردّنا هذا.
يقول الأستاذ عبد السلام بنعبد العالي- وهو أحد الوجوه البارزة على صعيد الإبداع
الفلسفي في العالم العربي، والذي رغم ذلك لم ينج من أذى ضغينة هذا المفتري - :
\"(إنّ) إثارة قضية \"السطو\" في الكتابة شديدة التداول عندنا. فما أكثر ما نقرأ
احتجاج هذا الكاتب ضد ذاك، وفضح هذا المؤلف لذاك، وشكواه أنه تسلط على إنتاجه، وسرق
بنات فكره، ولم يعترف له بحقه في \"الملكية\"...كلنا يعرف أنّ \"باب السرقات\" قديم
قدم النقد العربي...إلا أنها لم تكن مذمومة بالضرورة. والأهم من ذلك أنها كانت
تعتبر من صميم الكتابة... إلا أنّ المثير للانتباه، في الكيفية التي تطرح بها
المسألة عندنا اليوم، هو أننا لا نطرحها في باب \"شعرية الكتابة\" بقدر ما ندرجها
في \"أخلاقيات الكتابة\". إننا نرفع القضية إلى شرطة الآداب ولا نعرضها على نقاد
الأدب...(إنّ) ما تؤكده الشعرية المعاصرة(...)أنّ أجناس الخطاب وأنواعه هي التي
تملي على الكاتب \"قواعد\" التأليف ونماذجه وصوره، بحيث لا تبقى، في ميدان الكتابة،
قيمة كبرى لأسماء الأعلام، مثلما لا يبقى، في مجال الفكر، معنى محدد للملكية.
هذا ما يجعل السارق والمسروق منه \"يغرفان من النبع نفسه\". هذا النبع الذي لا يمكن
إلا أن يكون قد غرف هو كذلك، من منابع أخرى...بحيث لا تكون الكتابة مطلقا كتابة على
بياض، وإنما كتابة فوق كتابة، ورسما فوق رسم. ويغدو كل نص طرسا شفافا، وكائنا
جيولوجيا يحمل ماضي الكتابة كلها.
من هنا يصبح التقليد راعي حياة الكلام، وتصبح الكتابة استنساخا مسترسلا، ويغدو كل
مؤلف ناسخا، بالمعنى العربي المزدوج لكلمة نسخ، أي \"تبديل الشيء من الشيء وهو
غيره\"، و\"نقل الشيء من مكان إلى مكان وهو هو\". إلا أننا لا ينبغي أن ننسى أن هذا
النسخ لا ينصب على كائنات جامدة مكتملة منغلقة على ذاتها. إنه ينصب على معان
وأفكار. وإذا كانت المعاني تخضع لعمليات توليد متواترة فلأنها تشكو من نقص وعدم
اكتمال أوّليين. وإلا ما عادت أفكارا وغدت مجرد آراء مكرورة.
لا محيد للكاتب إذن من السرقة بكل أشكالها: الصريحة والضمنية، الواعية
واللاواعية...فلا مفر للكلام من التكرار..وليس جرما أن نكرر القول. لكن المهم أننا
عندما نكرره، أن يبدو كل مرة، كأنه قيل للمرة الأولى... وتلك هي صناعة الكتابة\".
أخيرا وليس آخرا هل كان في \"بيان\" المسمّى فؤاد بن أحمد شيء من البيان؟ وهل
استطاع أن ينفي عنه تهمة \"الضغينة والمكر والعمالة والتجسس\"؟ هل قال شيئا غير
الشتائم والسباب المعلن والمضمر؟ أليس \"بيانه\" عيّنة دالة، قلّ نظيرها، لتشخيص
مرض الذحل والضغينة الذي هو الوجه الآخر للمعاناة التي يكابدها المجتمع البدوي
التقليدي المحكوم بجوائح المجاعة والأمراض وندرة الموارد، والتي تجد انعكاسها على
المستوى الثقافي والسكولوجي؟